بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الحادِي عشر من سورة الأنعام
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
( 82)
في الآيةِ السَّابقةِ، قالَ اللهُ تَعالَى:
{ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }:
الإجابةُ في هذا الوجهِ:
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم }:
أي:
هؤلاءِ الذينَ أخلصُوا العبادةَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ،
ولمْ
يشرِكُوا بهِ شيئًا،
هم
الآمِنُون يومَ القيامةِ، المُهتَدُون في الدُّنيا والآخرةِ،
هُم
أهلُ المنازلِ العاليةِ.
فمَنْ
يعرفُ الله سُبحانَهُ وتَعالَى حقَّ المعرفةِ - أيَّها الإخوةُ-
لا يشرِكُ
به شيئًا - سُبحانَهُ جلَّ وعَلا!
أعمالُهُ
خالصةٌ للهِ عزَّ وجلَّ دائمًا.
المشكلةُ
في مَنْ يجهلُ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى، ولا يعرفُهُ معرفةً تامَّةً،
فتجدَهُ
يعظِّمُ رغبةَ الخَلقِ،
يريدُ أنْ
يقالَ عنْهُ:
هذا
أستاذٌ، وهذا دكتورٌ، وهذا عالمٌ، وهذا الشَّيخُ الفلانيُّ.
تُطرِبُهُ
هذه الكلمةُ، وتنفخُهُ، فيبدأُ بالزِّيادةِ، جاعِلًا القرآنَ مطيَّةً لهُ،
حتى
يرتفعَ ويسموَ ويعلوَ.
وقدْ
يتعلَّمُ العلمَ حتى يمسكَ المجالسَ، ويكونَ لحديثِهِ نصيبٌ فيها،
يستمعُ
النَّاسُ إليهِ، ويفرحُون عندَما يحضرُ.
قد
تدخلُ هذهِ الشُّبَهُ الخطيرةُ علينا- أيُّها الإخوةُ-
والتي
تحولُ بينَنا وبينَ الصِّدقِ مع اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
أمَّا
التَّقيُّ المؤمنُ الصَّادقُ، فلا يريدُ مثل هذه الكلماتِ،
لا
يريدُ أنْ يُثنى عليه أو يُمدحَ، لا يريدُ أنْ يذكرَ اسمُهُ،
يريدُ
أعمالًا خالصةً،
لأنَّهُ
يعرفُ منْ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، فلا يحتاجُ أنْ يقدِّمَ للخلقِ شيئًا،
هو يعرفُ
اللهَ الحكيمَ العليمَ الواسعَ ذا الفضلِ العظيمِ،
الذي
مكافآتُهُ عاليةٌ.
يا
سلعةَ الرحمَن لسْتِ رخيصةً بل أنتِ غاليةٌ على الكسلانِ
يا
سلعةَ الرحمَــــن ليسَ ينالُـها في
الألفِ إلّا واحدٌ لا إثنـانِ
اللَّهُمَ
بصِّرْ قلوبنا، وافتحْ لها!
اللَّهُمَ
أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعَهُ، وأرِنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابَهُ!
ليسَ
كلُّ مدَّعٍ الإيمانَ، سيكونُ معَ المؤمنِين يومَ القيامةِ.
النَّاسُ
الآنَ ليسَ لهُم إلّا ظواهرَنا فقط،
لكنَّ
اللهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ بواطنَنا،
وما
تُكنُّهُ صدورُنا، ويقرُّ في قلوبِنا.
روَى
البخاريُّ، عنْ عبدِاللهِ، قالَ:
لمَّا
نزلَتْ:
{ وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ }:
قالَ
أصحابُهُ: وأيُّنا لمْ يظلمْ نفسَهُ؟
فنزلَتْ:
{
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }:
[
لقمان: 13 ]
وروَى
الإمامُ أحمدُ، عنْ عبدِاللهِ، قالَ:
لمَّا
نزلَتْ هذهِ الآيةُ:
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ }:
شقَّ
ذلكَ على النَّاسِ، وقالوا: يا رسولَ اللهِ، فأيُّنا لا يظلمُ نفسَهُ؟
قالَ: "
إنَّهُ ليسَ الذي تعنُون! ألم تسمعُوا ما قالَ العبدُ الصالحُ:
{ يَا بُنَيَّ
لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }:
إنَّما
هو الشِّركُ "
الشِّرْك
عظيمٌ - أيَّها الإخوةُ- مزلَّةٌ عظيمةٌ، تُسقطُ العملَ بكاملِهِ.
نسألُ
اللهَ أنْ يعفوَ عنَّا، وأنْ يغفرَ لنا!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( 83)
{
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ }:
أي: وجَّهنا حجَّتَهُ عليهِم.
يعني بذلكَ:
(
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )
فعندَما
تكونُ لديك كلمةٌ صائبةٌ، كلمةُ الحقٍّ،
فإنَّ
اللهَ عزَّ وجلَّ هو الذي أمدَّك من عندِهِ سُبحانَهُ،
فانسبْهُ
إليهِ واشكُرْهُ جلَّ وعَلا.
وقد
صدقَهُ اللهُ، وحكمَ لهُ بالأمنِ والهدايةِ،
فقالَ:
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }
{
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }:
{
حَكِيمٌ }:
في
أفعالِهِ وأقوالِهِ.
{
عَلِيمٌ }:
بمَنْ
يهدِيهِ ومن يضلُّهُ،
وإنْ
قامَتْ عليهِ الحُججُ والبراهينُ.
نسألُ
اللهَ أن يهديَنا، وينيرَ بصيرتَنا!
يقولُ الله عزَّ وجلَّ:
{
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ
مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }:
حكيمٌ:
يعلم سُبحانَهُ من يرفعُ،
يضعُ
الشيءَ المناسبَ في المكانِ المناسبِ.
عليمٌ:
مطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ،
لا
تخفَى عليهِ خافيةٌ - سُبحانَهُ!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ
وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ( 84)
{
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }:
هبةُ اللهِ عزَّ وجلَّ اسحاقَ ويعقوبَ لابراهيمَ في
شيخوختِهِ.
هذا - أيُّها الإخوةُ- جزاءُ المؤمنِين.
أتتعجَّبُ في هذا؟
يذكرُ اللهُ تَعالَى أنَّهُ وهبَ لإبراهيمَ إسحاقَ، بعدَ
أنْ طعنَ في السِّنِّ، وأَيِسَ هو وامرأتُهُ " سارةُ " من الولدِ،
فجاءتْهُ الملائكةُ، وهم ذاهبُون إلى قومِ لوطٍ، فبشَّرُوهما
بإسحاقَ،
فتعجَّبَتْ المرأةُ من ذلكَ،
وقالتْ:
( يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا
بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ )
[ هود: 72 ، 73 ]
وبشَّرُوهُ معْ وجودِهِ، بنبوَّتِهِ، وبأنَّ لهُ نسلًا
وعقبًا،
كما قالَ:
( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ
الصَّالِحِينَ )
[ الصافات: 112 ]
وهذا أكملُ في البشارةِ، وأعظمُ في النِّعمةِ،
( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ )
[ هود: 71 ]
النِّعَمُ إذا توالَتْ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فعطاياهُ
عظيمةٌ جزيلةٌ، سُبحانَهُ!
أي: ويولَدُ لهذا المولودِ ولدٌ في حياتِكُما،
فتقرَّ أعينُكُما بهِ كما قرَّتْ بوالدِهِ،
فإنَّ الفرحَ بولدِ الولدِ شديدٌ، لبقاءِ النَّسلِ
والعقبِ.
ولمَّا كانَ ولدُ الشَّيخِ والشَّيخةِ قدْ يُتَوَهَّمُ
أنَّهُ لكبرِهِما في السنِّ،
لا يعقِّبُ لضعفِهِ، فينقطعَ،
وقعَتْ البشارةُ بهِ، وبولدِهِ باسمِ " يعقوبَ"،
الذي فيه اشتقاقُ العقبِ والذُّريَّةِ،
وكانَ هذا مجازاةً لإبراهيمَ عليهِ السَّلامُ،
حين اعتزلَ قومَهُ وتركَهُم، ونزحَ عنْهُم،
وهاجرَ من بلادِهِم ذاهبًا إلى عبادةِ اللهِ في الأرضِ،
فعوَّضَهُ اللهُ، عزَّ وجلَّ، عن قومِهِ وعشيرتِهِ،
بأولادٍ صالحِين منْ صُلبِهِ على دينِهِ، لتقرَّ بهِم
عينُهُ.
منْ تركَ شيئًا للهِ، عوَّضَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ خيرًا
منْهُ.
ابراهيمُ عليهِ السَّلامُ تركَ قومَهُ،
وتركُ القومِ والأهلِ والأحبابِ- أيَّها الإخوةُ- أمرٌ
ليسَ سهلًا.
لكنَّهُ لم يتركْهُم إلّا للهِ عزَّ وجلَّ،
فأعطاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ الولدَ، وولدَ الولدِ.
فهوَ رحمَنٌ رحيمٌ، فضلُهُ واسعٌ - سُبحانَهُ جلَّ
وعَلا!
كما قالَ تَعالَى:
( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا )
[ مريم: 49 ]
الله أكبرُ!
لماذا اعتزلَ ابراهيمُ قومَهُ؟
لأنَّهُم يعبدُون منْ دونِ اللهِ.
فما الجزاءُ؟
{ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا
جَعَلْنَا نَبِيًّا }:
وهبْنَا: أي أعطَينا،
الهِباتُ: العطايا بدونِ مقابلٍ.
{
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا
جَعَلْنَا نَبِيًّا }:
وليسَ أيَّ مولودٍ أعطَاهُ اللهُ،
فاللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى إذا أعطَى أجزَلَ!
ونوحٌ وابراهيمُ عليهِما السَّلامُ، كلٌّ منْهُما لهُ
خصوصيَّةٌ عظيمةٌ:
{
وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ }:
أي: من قبلِهِ، هدينَاهُ كما هدينَا ابراهيمَ، ووهبْنا
لهُ ذرِّيَّةً صالحةً،
وكلٌّ منْهُما لهُ خصوصيَّةٌ عظيمةٌ:
أمَّا نوحٌ عليهِ السَّلامُ، فإنَّ اللهَ تَعالَى لمَّا
أغرقَ أهلَ الأرضِ،
إلَا منْ آمنَ بهِ - وهُم الذين صحبُوهُ في السَّفينةِ
-
جعلَ اللهُ ذرِّيَّتَهُ هُم الباقِين، فالنَّاسُ كلُّهُم
من ذرِّيَّةِ نوحٍ.
وكذلكَ الخليلُ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ،
لمْ يبعثْ اللهُ عزَّ وجلَّ، بعدَهُ نبيَّا إلَا منْ ذرِّيَّتِهِ.
كما قالَ تَعالَى:
( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ )
[ العنكبوت: 27 ]
وقالَ تَعالَى:
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )
[ الحديد: 26 ]
أي أنَّ نوحًا وابراهيمَ، كلُّ الأنبياءِ منْ ذرِّيَّاتِهِما.
وقالَ تَعالَى:
( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم
مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا )
[ مريم: 58 ]
إذن بدأَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى يعدِّدُ الأنبياءَ:
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ
وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )
{
وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }:
لماذا؟
بسببِ إحسانِهِ في عبادةِ اللهِ - سُبحانَهُ وتَعالَى،
وتركِهِ لأهلِهِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ
وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) ( 85)
جعلنَا أغلبَ ذرِّيَّتَهُم صالحةً.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( 86)
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَمِنْ آبَائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( 87)
عندَما تقرأُ الآيةَ الثَّانيةَ منَ الوجهِ،
يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:
( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )
فالآياتُ التي بعدَها تبيِّنُ الرِّفعةَ.
- أيَّها الإخوةُ - عندَما تكونُ ذرِّيَّتُك منَ الصَّالحِين،
فهذه نعمةٌ.
كلُّ الأنبياءِ منْ ذرِّيَّةِ ابراهيمَ ونوحٍ عليهِما
السَّلامُ، وهذهِ نعمةٌ،
بلْ أعظمُ نعمةٍ.
يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ
كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ }
وقبلَها قالَ:
{ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }:
بسببِ إحسانِهِ.
يقولُ الله عزَّ وجلَّ:
( وَمِنْ آبَائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
ذكرَ أصولَهُم وفروعَهُم، وذوِي طبقتِهِم،
وأنَّ الهدايةَ والاجتباءَ شملَهُم كلَّهُم.
ولهذا قالَ:
{ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ }:
الشِّرْكُ يحبطُ أعمالَ المخلوقِين، حتى الرُّسلَ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم
مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( 88)
اللَّهُمَ إنَّا نسألُكَ هذهِ الهدايةَ لنَا ولذرِّيَّاتِنا
يا حيُّ يا قيُّومُ!
أي: إنَّما حصلَ لهُم ذلكَ بتوفيقِ اللهِ عزَّ وجلَّ،
وهدايتِهِ إيَّاهُم
{ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ }:
تشديدٌ لأمرِ الشِّرْكِ، وتغليظٌ لشأنِهِ، وتعظيمٌ
لملابستِهِ.
كما قالَ تَعالَى:
{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }:
[ الزمر: 65 ]
وهذا شرطٌ، والشَّرطُ لا يقتضِي جوازَ الوقوعِ،
كقولِهِ تَعالَى:
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ
الْعَابِدِينَ }
[ الزخرف: 81 ]
وكقولِهِ:
{ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا
لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }
[ الأنبياء: 17 ]
وكقولِهِ:
{ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا
لَّاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
[ الزمر: 4 ]
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا
هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) ( 89)
{
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ }:
أنعمْنا
عليهِم بذلكَ رحمةً للعبادِ بهِم، ولطفًا منَّا بالخليقةِ.
فإذا
كانَ هؤلاءِ الصَّفوةُ الأخيارُ،
لو
أشركُوا - وحاشَاهُم- لحبِطَتْ أعمالُهُم،
فغيرُهُم
أولَى.
{
فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ }:
أي:
بالنُّبُوَّةِ.
ويُحتمَلُ
أنْ يكونَ الضَّميرُ عائدًا على هذهِ الأشياءِ الثَّلاثةِ:
الكتابِ،
والحُكمِ، والنُّبُوَّةِ.
وقولُهُ:
{
هَٰؤُلَاءِ }:
يعني: أهلُ مكَّةَ.
قالَهُ ابنُ عباسٍ وسعيدُ بن المسَّيبِ والضحَّاك وقتَادة.
{ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ }:
أي: إنْ يكفرُ بهذهِ النِّعمِ،
منْ كفرَ بهَا من قريشٍ وغيرِهِم من سائرِ أهلِ الأرضِ،
منْ عربٍ وعجمٍ، وملِّيِّين وكتابيِّين،
فقدْ وكَّلْنا بهَا قومًا آخرِين:
يعني: المُهاجِرين والأنصارَ، وأتباعَهُم إلى يومِ
القيامةِ.
اللَّهُمَ اجعلنا منْهُم يا حيُّ يا قيُّومُ!
{ لَّيْسُوا
بِهَا بِكَافِرِينَ }:
أي: لا يجحدُون شيئًا منْها، ولا يردُّون منْها حرفًا
واحدًا،
بلْ يؤمنُون بجميعِها: مُحكَمِها ومُتشابهِها.
جعلَنا اللهُ منْهُم بمنِّهِ وكرمِهِ وإحسانِهِ وفضلِهِ
وجودِهِ وإحسانِهِ!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) ( 90)
ثمَّ
قالَ تَعالَى مخاطبًا عبدَهُ ورسولَهُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
{
أُولَٰئِكَ }:
يعني:
الأنبياءُ المذكُورين،
مع من
أضيفَ إليهِم من الآباءِ والذُّرِّيَّةِ والإخوانِ، وهم الأشباهُ.
{
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }:
أي:
هُم أهلُ الهدايةِ، لا غيرُهُم.
{
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }:
أي : اقتدِ
واتَّبِعْ.
وإذا
كانَ هذا أمرًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فأمَّتُهُ
تَبَعٌ لهُ فيمَا يشرعُهُ لهُم، ويأمرُهُم بهِ.
وأنت تَبَعٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق