الاثنين، أغسطس 08، 2016

تفريغ سورة المائدة من آية 78 إلى آية 83




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجه السادس عشر من سورة المائدة


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( 78)

{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ }:
أي: طُرِدُوا وأُبعِدُوا عن رحمةِ اللهِ

{ عَلَى لِسَـانِ دَاوُدَ وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَــمَ }:
أي: بشهادتِهِما وإقرارِهِما،
بأنَّ الحُجّةَ قد قامَتْ عليهِم، وعاندُوها.

{ ذَلِكَ }:
الكُفرُ واللَّعنُ

{ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }:
أي: بعصيانِهِم للهِ تَعالَى، وظلمِهِم لعبادِ اللهِ،
صارَ سببًا لكفرِهِم وبعدِهِم عن رحمةِ اللهِ،

فإنَّ للذُّنوبِ والظُّلمِ عقوباتٌ.
فلِنحذرْ ولِننتبهْ!


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( 79)

ومن معاصِيهِم التي أحلَّتْ بهم المَثُلاتِ، وأوقعَتْ بهم العقوباتِ، أنَّهُم:
{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ }:

يا اللهُ! أيقظْ قلوبَنا من الغفلةِ التي نحنُ فيها،
ما حالُ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكرِ الآنَ؟
أينَ الآمِرُون بالمعروفِ؟ والنَّاهُون عن المُنكرِ؟

{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ }:
أي: كانُوا يفعلُون المُنكرَ، ولا ينهَى بعضُهُم بعضًا،
فيشتركُ بذلك المُباشِرُ، وغيرُهُ الذي سكتَ عن النَّهيِ عن المنكرِ، مع قدرتِهِ على ذلك.

وذلكَ يدلُّ على تهاونِهِم بأمرِ اللهِ، وأنَّ معصيتَهُ خفيفةٌ عليهُم،

فلو كانَ لديهِم تعظيمٌ لربِّهِم لغارُوا لمحارمِهِ، ولغضبُوا لغضبِهِ،

وإنَّما كانَ السُّكوتُ عن المنكرِ - مع القدرةِ- موجِبًا للعقوبةِ،
لما فيهِ من المفاسدِ العظيمةِ:

- منْها: أنَّ مجرَّدَ السُّكوتِ، فعلُ معصيةٍ، وإنْ لم يباشِرْها السَّاكِتُ.
فإنَّهُ -كما يجبُ اجتنابُ المعصيةِ- فإنَّهُ يجبُ الإنكارُ على من فعلَ المعصيةَ.

- ومنْها: ما تقدَّمَ أنَّهُ يدلُّ على التَّهاونِ بالمعاصِي، وقلَّةِ الاكتراثِ بها.

- ومنْها: أنَّ ذلك يجرِّئُ العُصاةَ والفَسَقةَ على الإكثارِ من المعاصِي، إذا لم يُردَعُوا عنها،
فيزدادُ الشَّرُّ، وتعظمُ المصيبةُ.

- ومنها: أنَّ - في تركِ الإنكارِ للمُنكرِ- يندرسُ العلمُ، ويكثرُ الجهلُ،
فإنَّ المعصيةَ- مع تكرُّرِهَا وصدورِهَا من كثيرٍ من الأشخاصِ،
وعدمِ إنكارِ أهلِ الدِّينِ والعلمِ لها -
يُظَنُّ أنَّها ليسَتْ بمعصية،
وربما ظنَّ الجاهِلُ أنَّها عبادةٌ مُستَحسَنةٌ.

وأيَّ مفسدةٍ أعظمُ من اعتقادِ ما حرَّمَ اللهُ حلالًا؟
وانقلابِ الحقائقِ على النُّفوسِ، ورؤيةِ الباطلِ حقًّا؟
وقد وصَلْنا إلى هذا الزَّمانِ، وهذهِ المرحلةِ!

- ومنْها: أنَّ السَّكوتُ على معصيةِ العاصِينِ،
ربما تزيَّنَتِ المعصيةُ في صدورِ النَّاسِ، واقتدَى بعضُهُم ببعضٍ،
فالإنسانُ مولعٌ بالاقتداءِ بأضرابِهِ وبنِي جنسِهِ.

ومنْها ومنْها.

فلمَّا كانَ السُّكوتُ عنِ الإنكارِ بهذهِ المثابَةِ،
نصَّ اللهُ تَعالَى أنَّ بنِي إسرائيلَ الكفَّار منْهُم، لعنَهُم بمعاصِيهِم واعتدائِهِم،
وخصَّ من ذلك هذا المُنكرِ العظيمِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ  ) ( 80)

{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }:
بالمحبَّةِ والموالاةِ والنُّصرةِ.

{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ }:
هذه البضاعةَ الكاسِدةَ، والصَّفقةَ الخاسِرةَ،
وهي سخطُ اللهِ الذي يسخطُ لسخطِهِ كلُّ شيءٍ، والخلودُ الدَّائمُ في العذابِ العظيمِ،

فقد ظلمَتْهُم أنفسُهُم، حيث قدَّمَتْ لهُم هذا النُّزلَ غيرَ الكريمِ،
وقد ظلمُوا أنفسَهُم، إذ فوَّتُوها النَّعيمَ المُقيمَ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ( 81)

{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ }:
فإنَّ الإيمانَ باللهِ وبالنَّبيِّ وما أُنزِلَ إليهِ،
 يوجبُ على العبدِ موالاةَ ربِّهِ، وموالاةَ أوليائِهِ، ومعاداةَ منْ كفرَ به وعادَاهُ، وأوضعَ في معاصِيهِ،

فشرطُ ولايةِ اللهِ والإيمانِ به، أنْ لا يُتَّخَذَ أعداءُ اللهِ أولياَء.

حتى تواليَ اللهَ، وتكونَ مؤمِنًا بهِ، يجبُ أنْ لا تتَّخذَ أعداءَ اللهِ أولياءَ،
الذين يبارزونَهُ بالمعاصِي، ويحلُّون الحرامَ، ويحرِّمُون الحلالَ،
الذين لا يرضَون بشريعةِ هذا الدِّينِ، ويسخرُون ويستهزؤُون بهذا الدِّينِ،
وهم كثرٌ الآنَ، ومنْ بنِي جلدتِنا.

{ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }:
أي: خارِجُون عن طاعةِ اللهِ، والإيمانِ بهِ، وبالنَّبيِّ.
ومن فسقِهِم موالاةُ أعداءِ اللهِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
 لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( 82)

يقولُ تَعالَى في بيانِ أقربِ الطَّائفَتَين إلى المُسلِمِينَ، وإلى ولايتِهِم ومحبَّتِهِم، وأبعدِهِم منْ ذلك:

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا }:
فهؤلاء الطَّائفتَان على الإطلاقِ، أعظمُ النَّاسِ معاداةً للإسلامِ والمُسلِمِينَ،
وأكثرُهُم سعيًا في إيصالِ الضَّررِ إليهِم،
وذلك لشدَّةِ بغضِهِم لهُم، بغيًا وحسدًا وعنادًا وكفرًا.

كفَانا اللهُ شرَّهُم!

{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى }:
وذكرَ تَعالَى لذلك عدَّةَ أسبابٍ:

- منْها: أنَّ
{ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا }:
أي: علماءَ متزهِّدِين، وعُبَّادًا في الصَّوامعِ مُتعبِّدِين.

فإذا لم يكنْ منْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا،
فهم ليسُوا من الذين يحبُّون المُسلِمِينَ، ويُوادُّونهم، ويتقرَّبُون إليهِم.

والعلمُ مع الزُّهدِ، وكذلك العبادةُ، ممَّا يلطِّفُ القلبَ ويرقِّقُهُ، ويزيلُ عنْهُ ما فيهِ من الجفاءِ والغِلظةِ،
فلذلك لا يوجدُ فيهِم غلظةُ اليهودِ، وشدَّةُ المُشركِين.

- ومنْها:
{ أنَّهُم لَا يَسْتَكْبِرُونَ }
أي: ليسَ فيهم تكبُّرٌ ولا عتوٌّ عن الانقيادِ للحقِّ،

سُبحانَ اللهَ! تجدْهُم أكثرَ النَّاسِ والطَّوائفِ إسلامًا.

وذلك موجِبٌ لقربِهِم من المُسلِمِينَ ومن محبَّتِهِم،
فإنَّ المُتواضِعَ أقربُ إلى الخيرِ من المُستكبِرِ.

ولذلك إن كنْتَ تجدُ في نفسِكَ وفي قلبِكَ ما تجدُ،
فعليكَ أن تعالجَ ما في قلبِكَ من الكِبرِ،
لأنَّ الكبرَ يصدُّ عن الحقِّ دائمًا.

تضخِّمُ النَّفسِ، وتجعلُها صنَمًا - مع الأسفِ، وليسَ حقيقةً-
تجعلُها من أصحابِ المنازلِ العاليةِ،
وتريدُ من النَّاسِ أنْ يفعلُوا لكَ ويعملُوا،
ثمَّ تغضبُ عند أيِّ تصرُّفٍ يفعلُهُ النَّاسُ ضدَّكَ،
بل أنتَ بشرٌ ممَّن خلقَ.

والمؤمِنُ التَّقيُّ الخفيُّ النَّقيُّ يستصغرُ نفسَهُ دائمًا،

{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }
هؤلاءِ أهلُ الإيمانِ والحقِّ والصَّلاحِ، الصَّادِقِين.

اللَّهُمَ اجعلْنا منْهُم يا حيُّ يا قيُّومُ!


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( 83)

أثنَى اللهُ على النَّصارَى في الآيةِ السَّابقةِ،
وكذلكَ في هذهِ الآيةِ:

{ إذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ }:
مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
أثَّرَ ذلكَ في قلوبِهِم وخشعُوا لهُ، وفاضَتْ أعينُهُم،
 بسببِ ما سمعُوا منَ الحقِّ الذي تيقَّنُوهُ، فلذلكَ آمنُوا وأقرُّوا بهِ،

هذه هي النَّتيجةُ، فالنَّتيجةٌ مُباشَرةٌ،
يفترضُ أنَّكَ إذا آمَنْتَ، فقدِّمْ.

فقالُوا:
{ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }:

من يقصدُ النَّصارَى بالشَّاهِدين؟
هم أمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

لماذا سُمُّوا بالشَّاهِدين؟
لأنَّهُم:
- همُ الذين يشهَدُون أنَّ اللهَ واحدٌ أحدٌ، يشهدُون بالتَّوحيدِ للهِ - سُبحانَهُ وتَعالَى.
- يشهَدُون لرسلِهِ جميعًا بالرِّسالةِ، وصحَّةِ ما جاؤُوا بهِ.
- ويشهَدُون على الأممِ السَّابقةِ، بالتَّصديقِ والتَّكذيبِ، يومَ القيامةِ.

وهم عُدولٌ، شهادتُهُم مقبولةٌ،
كما قالَ تَعالَى:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }



سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.





ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق