بسم الله الرحمن الرحيم
الوجه السابع عشر من سورة النساء
قال تعالى :
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا
أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً
مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(92)
هذه صيغة من صيغ الإمتناع .. اي يمتنع ويستحيل أن يصدرمن مؤمن
قتل
مؤمن اي متعمد ,
وفي هذا الإخبار لشدة تحريمه وأنه منافي للإيمان أشد منافاة ,
وإنما
يصدر من كافر أو فاسق او ناقص الإيمان نقصا عظيما ويخشى عليه ما هو أكبر من
ذلك ..
لأن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي عقد الله بينه الأخوة
الإيمانيه التى مقتضاها: محبته وموالاته وإزالة ما يعرض لاخيه من الأذى واي اذى
اشد من القتل ,
وهذا يصدّقه قول الرسول عليه الصلاة والسلام :
(لا ترجعوا من بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)،
فعلم ان القتل من الكفر العملي و أكبر الكبائر بعد
الشرك بالله القتل
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا
خَطَأً.. ﴾ لفظا عاما ولجميع الأحوال وانه لا يصدر منه قتل لأخيه بوجه من الوجوه .
ثم استثنى حاله من الحالات، قال:(خَطَأً )
فإن المخطئ الذي لايقصد القتل غير أثم
ولا متجرئ على محارم الله،
ولكنه لما فعل فعلا شنيعا وصورته كافيه لقبحه وإن لم
يقصده أمر الله تعالى بالكفاره والدية، فقال: ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ) ,
سواء كان القاتل ذكر أو أنثى حرا أوعبدا صغيرا أو كبيرا عاقلا او
مجنونا مسلما او كافرا ..
وسواء كان المقتول صغيرا او كبيرا ذكرا او انثى ,
فعليه تحرير
رقبه كفارة لذلك تكون في ماله ,
ويشمل ذلك الصغير والكبير والذكر والأنثى والصحيح
والمعيب
ولكن الحكمه تقتضي ألا يجزي عتق المعيب في الكفاره ,
فالمقصود بالعتق
نفع العتيق،
تحرير رقبه يدل على أن التحرير تخليص من استحقت منافعه لغيره وأن تكون
له،
فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير فليس فيه فائده فتأمل ذلك
فإنه واضح، أما الدية فأنها تجب على عاقلة القاتل في الخطا وشبه العمد.
(مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ) لماذ تسلم لأهله ؟
جبرا
لقلوبهم، والمراد بأهله هم ورثته فإن الورثه يرثون دية الميت فهي داخله في الورث،
وفيها دلالة تربويه لو اتلفت شئ تلف حسي او معنوي فنجبر القلوب وهذا شئ جميل جبر
القلوب جبر من اتلفت عنده شيئا ،
( إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يعني يتصدق ورثة القتيل عند العفو عن
الديه فإنها تسقط وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سبحانه سماها صدقة والصدقة
مطلوبة في كل وقت،
( مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ) المقتول من كفار حربيين وهو مؤمن
فتحرير رقبة مؤمنه وليس عليكم لأهله دية لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم.
(وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ )
فتحرير رقبه .. لاحترام أهله لما بينهم من العهد والميثاق ,
فمن لم يجد
رقبه او لم يجد ثمنها او كان معسرا ولم يفضل من مؤنته وحوائجه الأصليه شيئا ليفي
بالرقبه؛ فصيام شهرين اي ليس عنده مال زياده عن حاجاته الأصليه يصوم شهرين
متتابعين لا يفطر بينهما من غير عذر ,
فإن أفطر لعذر لايقطع التتابع كالمرض والحيض
وغيرهما وإن كان لغير عذر وانقطع التتابع فوجب عليه استئناف الصوم اي يبدأ
الصوم من جديد إذا أفطر بدون عذر ،
{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } :
توبة من الله اي الكفارة التى اوجبها الله على
القاتل توبة من الله ورحمة لعباده وتكفيرا لما حصل منهم من تقصير وعدم احتراز كما
هو واقع كثير من قتل الخطا .
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) كامل العلم كامل الحكمة لا
يخفى عليه شئ لا في الأرض ولا في السماء،
ولايخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في
السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر،
وكل ماخلقه وشرعه متضمن لغاية الحكمة ومن علمه
وحكمته أن اوجب على القاتل الكفارة المناسبة لما صدر منه فإنه تسبب في إعدام نفس
محترمة وأخرجها من الوجود إلى العدم , فناسب أن يخرج رقبة ويعتقها من رب العبودية
للخلق إلى الحرية التامة ,
فإن لم يجد هذه الرقبة فصيام شهرين متتابعين فأخرج نفسه
من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبديه إلى التعبد لله
تعالى بتركها تقربا لله
عز وجل .
حديث الرسول عليه الصلاة والسلام ما ثبت في الصحيحيين عن ابن مسعود
قال :قال رسول الله صل الله عليه وسلم (اول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في
الدماء ,لايزال المؤمن معنقا صالحا مالم يصب دما حراما فإذا اصاب دما حراما بلّح)
وحديث ثالث (لزوال
الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم).
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا} (93)
تقدم أن الله تعالى أخبر أن القتل من الكفر العملي ولهذا وعيد شديد
ولم يرد في الكبائر كأعظم من هذا الوعيد الشديد بل ولا مثله إلا وأن الأخبار أن
جزاؤه جهنم؛
أي أن هذا الذنب العظيم قد يجازى صاحبه بالعذاب العظيم والخزي وسخط
الجبار وفوات الفوز والفلاح وحصول الخيبة والخسارة فعياذا بالله من كل سبب يبعد عن
رحمته جل وعلا،
وقد قام الدليل على ذكر الموانع بعضها بالإجماع وبعضها بالنص
فالتوبة مانع بالإجماع والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التى لا مدفع لها والحسنات
العظيمه الماحيه وهي المانعه والمصائب الكبار المكفرة مانعة وإقامة الحدود في
الدنيا مانع بالنص ولا سبيل لتعطيل النصوص ولابد من إعمال النصوص من
الجانبين وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية
والقدرية،
وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه والحكم للأغلب منهما؛
فالقوة
مقتضية للصحة والعافية وفساد الاخلاق وفعل القوة والحكم للغالب منهما ,
وكذلك
الأدوية والأمراض والعبد يكون فيها مقتضي للصحة ومقتضي للعطب وأحدهما يمنع كمال
تأثير الآخر و يقاومه فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير عليه.
ومن هنا يعلم إنقسام الخلق منهم من يدخل الجنه ومنهم من يدخل النار,
وعكسه من يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب مافيه من مقتضى المكث
لسرعة الخروج وبطئه ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من
أمر المعاد وتفاصيله حتى كأنه يشاهده رأي العين ويعلم أن هذا مقتضى إلاهيته سبحانه
وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك.
اي أن الإيمان يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب "فزد من
إيمانك"
يستحيل المؤمن اصراره على السيئات وإن وقعت منه فإن مامعه من نور
الإيمان يأمره بتجديد التوبة والرجوع إلى الله تعالى بعدد أنفاسه وهذا من أحب
الخلق إلى الله، هل يقبل الله من التائب القاتل ؟ نعم يقبل وليزد إيمانه وليكثر من
الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(94)
يأمر الله عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادا في سبيله وابتغاء مرضاته ان
يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبه ولا يستعجلون ،
لان الأمور قسمين :
أمور
واضحه وأمور غير واضحه ..
فالواضحه البينه لا تحتاج لتثبيت ولا إلى تبيين ,
وأما الامور
غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج لتثبت فيها والتبين ليعرف هل يقدم عليها ام لا ،
لأن
التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة والكف لشرور عظيمة ما به يعرف
عن دين العبد وعقله ورزانته بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له
حكمها ,
فإن ذلك يؤدي إلى مالا ينبغى .. كهؤلاء الذين عاتبهم الله تعالى لمّا لم يتثبتوا
وقتلوا من سلّم عليهم ومعه غنيمه له او مال ظنّا ان يستكفي بذلك قتلهم وكان هذا خطأ
في نفس الأمر؛
فلهذا عاتبهم الله بقوله: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى
إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ )
اي لا يحملكم العرض الفاني القليل على
ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي فما عند الله خير
وابقى ،
هؤلاء طلبوا السلام إلا أنّ بعض الصحابه لم يقبلوا السلام وقتلهم واخذ
مغانمهم فلامهم الله عز وجل .
وفي هذا اشارة إلى أن العبد ينبغي له اذا رأى دواعي
نفسه ماثلة الى حالة له فيها هوى وهي مضرة له أن يذكره ما أعد الله لمن نهى
النفس عن الهوى
( فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) الهوى خطير "نسأل
الله ياذا الجلال والإكرام ان يعافينا
منه .
نفسك اذا اشتهت شئ حاول أن
تخالفها.
( وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى ) [ النازعات 40 ,41 ]
أن من ينهى نفسه عن الهوى فمقامه الجنه والملاذ لانه قدم رضا الله
على نفسه وهذا فيه ترغيب للنفس ﻹمتثال أمر الله وإن شق ذلك عليها ، خالف هواك اي
طريق يريده هواك خالفه أكثر من مخالفة النفس التي تريد الراحه والدنيا.
( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ )
يذكر الله حالهم قبل هدايتهم للإسلام ..
كنتم أنتم قبل مثلهم فمثل ما
هداكم بعد ضلالكم فإن الله يهدي غيركم
وقال الله عز وجل : ( فَتَبَيَّنُوا ): التبين
امره عظيم ومن خرج جهادا في سبيل الله واستعد بأنواع الاستعداد للايقاع بهم مأمور
لتبين لمن القى إليه السلام،
وكانت القرينه قويه في انه سلّم تعوذا من القتل وخوفا
على نفسه فإن ذلك يدل على التثبت والتبين في كل الاحوال التى فيها اشتباه حتى يتضح
له الأمر بين الرشد والصواب
( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) فيجازي
كلا بعمله.
و صل اللهم و سلم و بارك على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم
سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب
إليك.
اللهم اجعل هذا الإجتماع اجتماعا مرحوما، و اجعل تفرقنا من بعده
تفرقا معصوما، و لا تجعل يا رب معنا شقيا و لا محروما، و صل اللهم و سلم و بارك
على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا .
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق