الوجه الثالث من سورة الأعراف
يقول الله عزوجل:
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}
:
الآيات تتحدث عن آدم عليه السلام
الآن آدم يسأل الله عزوجل التوبة
والغفران، فأعطاه الله عزوجل سؤله كما أعطى إبليس سؤله
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}:
قال الضحاك بن مزاحم هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (فَتَلَقَّىٰ
آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) [البقرة:37]،
رحمة الله عزوجل واسعة فهو الذي أعطى آدم عليه السلام الكلمات حتى يتوب عليه.
ثم يقول الله عزوجل:
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}
قيل المراد بالخطاب في
{اهْبِطُوا} آدم وحواء، و قيل معهم إبليس
}وَلَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ{
: أي قرار و أعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، و أحصاها
القدر، وسطرت في الكتاب الأول.
ثم قال تعالى:
(قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا
تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)
يخبر الله تعالى أنه جعل الأرض داراً
لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، و منها نشورهم
ليوم القيامة، الذي يجمع الله فيه الأولين و الآخرين، ويجازي كلاً بعمله.
ثم يقول تعالى:
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ
ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)
يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده؛
لما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس المذكور هنا: ستر العورات و هي السوءات،
والرياش و الريش: ما يتجمل به ظاهراً، فالأول من الضروريات، و الريش من التكميلات
و الزيادات.
{وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ
خَيْرٌ}
: من اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد و لا يبلى ولا يبيد،
وهو جمال القلب والروح.
أما اللباس الظاهري فغايته أن يستر
العورة الظاهرة في وقت من الأوقات، أو يكون جمالاً للإنسان، وليس وراء ذلك منه نفع.
{ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: أي ذلك المذكور من اللباس، مما تذكرون به ما ينفعكم
وما يضركم، وتشبهون باللباس الظاهر على الباطن.
ثم يقول تعالى:
(يَا بَنِي آدَمَ لَا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ
يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ
أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)
التحذير من فتنة الشيطان: يحذر
الله تعالى بني آدم من إبليس وقبيلته،
مبيناً لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام، في سعيه لإخراجه من الجنة
التي هي دار النعيم، إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعد ماكنت
مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة.
ثم يقول تعالى:
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ)
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}:
عمل الكفار للفاحشة ونسبتها الى
الله عزوجل: قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا
أمهاتنا، فتضع المرأة على فرجها النسعة أو شيء، فتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله و ما
بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى:
{وَإِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا
بِهَا}
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ}
: وهذه من القواعد الربانية، فقال الله تعالى ردّاً عليهم: قل
يامحمد لمن ادعى ذلك
: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}
، فهذا الذي
تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بذلك.
{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ}
: أتسندون إلى الله من الأقوال مالا تعلمون صحته؟!
ثم قال تعالى:
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}
:
هذه هي الحقيقة، قل لهم يامحمد هذه الحقيقة
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}
: بالعدل
والاستقامة.
{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ
كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
: أي أمركم بالاستقامة في
عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات، وما أخبروا به عن الله،
وما جاؤوا به من الشرائع بالإخلاص له في عبادته
فإنه تعالى لا يتقبل عملاً حتى
يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك
ثم يقول الله سبحانه جل و علا: {كَمَا
بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}
أي: يحييكم بعد موتكم
وقال الحسن البصري:
كما بدأكم في
الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء
و قال قتادة:
{كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ}: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً، ثم ذهبوا ثم يعيدهم.
يقول عبدالرحمن ابن زيد ابن أسلم:
كما بدأكم أولًا كذلك يعيدكم آخراً.
رُوي عن ابن عباس قال: قام فينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله
حفاةً عراةً غرلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا
عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:104]، هذا الحديث في الصحيحين.
و قال علي ابن أبي طلحة، عن ابن
عباس قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَىٰ
وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}: قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن
آدم مؤمنا وكافراً، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم
مُّؤْمِنٌ) [التغابن:2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمناً وكافراً.
ويؤيد هذا الحديث حديث عبد الله
ابن مسعود في صحيح البخاري حيث قال: "فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل
بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باعاً أو ذراعاً، فيسبق عليه الكتاب
فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه
وبينها إلا باعاً أو ذراعاً، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة"
و جاء في الصحيحين: أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم، قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه و
ينصرانه و يمجسانه"
وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي
حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم".
ثم قال تعالى:
(فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ
عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)
قال ابن جرير: و هذا من أبين
الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها،
إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربه فيها، لأنه لو
كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى فرق. وقد
فرق الله تعالى بين أسمائها و أحكامها في هذه الآية الكريمة.
وفيه دليل على أن الهداية بفضل
الله ومنّةً منه، و أن الضلالة بخذلانه للعبد إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطان، و
أن من حسب أنه مهتد و هو ضال، لا عذر له؛ لأنه متمكن من الهدى، و إنما أتاه حسبانه
من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى.
سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا
إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك
اللهم صلَ و سلم و بارك على نبينا
محمد و على آله و صحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق