الوجه الثاني عشر من سورة البقرة
قوله تعالى في هذه الآية :( وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون )َ (84)
هذا الميثاق خاصّ على بني إسرائيل نهاية الوجه السابق كان الميثاق العام.
الآن هذه الآيات هي الميثاق الخاص
الآية التي تليها:
( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ)
ثمّ
( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ )
هذه الثّلاث آيات عن ميثاق الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل ( الميثاق الخاصّ )
وهذا الفعل المذكور في الآية فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة من اليهود.
وذلك الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا قبل مبعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم مشركين، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثّلاث من اليهود، سكنوا معهم في المدينة
الثّلاث فرق من اليهود هم:
الفرقة الأولى: بنو قريظة،
الفرقة الثّانية: بنو النّضير،
الفرقة الثّالثة: بنو قينقاع.
وكلّ فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة، فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه،
فيقتل اليهودي اليهودي، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب،
ثمّ إذا وضعت الحرب أوزارها وكان هناك أسارى بين الطّائفتين فدى بعضهم بعضاً.
والأمور الثّلاثة هذه كلّها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم:
١- ألا يسفك بعضهم دم بعض.
٢- ولا يخرج بعضهم بعضاً.
٣- وإذا وجدوا أسير منهم وجب عليهم فداؤه
اليهود معناها: اتّباع الهوى.
فمعروف عنهم اتّباع الهوى واختاروا ما أحبّوه وطبّقوه وفعلوه.
أيهم؟
أنّهم إذا وجد أسير وجب منهم فداؤه فعملوا بالأخير وتركوا الأولين
ماهما الأولين؟
( ألا يسفك بعضهم دم بعض - ولا يخرج بعضهم بعضاً ) لم يطبقوها
فأنكر الله عليهم ذلك فقال في الآية:
( وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (85)
وفيه أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النّواهي،
وأن المأمورات من الإيمان
وأن المأمورات من الإيمان
( فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاَ )
فقد وقع ذلك: أخزاهم الله -عزّ وجلّ- وسلّط عليهم رسوله
( يعني محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم-)
( يعني محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم-)
قتل من قتل وسبى من سبى وأجلى من أجلى
( بعض القبائل قتلت مثل بني قريظة، وسبيت نساؤها، وبعضهم أجليت مثل بني النّضير).
ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب:
يعني: أعظمه.
( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )
ثمّ أخبر تعالى عن السّبب الذي أوجب لهم الكفر
أنّهم ببعض الكتاب وكفروا ببعضه:
( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ )
لا تشترين الحياة الدّنيا بالآخرة.
خذي الأخروي على ما فيه من صبر ومرارة وحرارة وتحمّلي:
( ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى )
مشكلة بني إسرائيل أنّهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.
الدنيا خضرة حلوة تتزيّن لتعلم حقائقنا لو لم تتزيّن ما عرف المؤمن بخلاف المؤمن.
( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ )
فهم توهموا لو أنّهم لم يعينوا حلفاءهم فهو عار واختاروا النّار على العار
لم هذا الله لا يخّفف عنهم العذاب فهو آت على شدّته ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات.
( وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (86):
لا يدفع عنهم مكروه.
ثلاث آيات عن الميثاق الخاصّ ميثاق اليهود في الكتاب المقدس:
ألا يسفك بعضهم دماء بعض.
فالقتل وسفك الدّماء حرام في جميع الشّرائع السّماوية جميعها.
( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ )
ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم .
الإخراج من الوطن شاقّ على النّفس وأشدّ عند بعض النّاس من القتل.
وإذا وجدوا أسيراً من اليهود وجب عليهم فداؤه
وهذا في كتابهم وشريعتهم فأقرّ اليهود بهذا الميثاق واعترفوا به،
ثمّ هم بعد ذلك يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
فيتقاتلون بعضهم ويشرد بعضهم بعضًا، ثمّ يفادون أسراهم بعد ذلك.
ولما كان الإخلال بالعهد من صفات الكافرين والمنافقين، فقد استحقّوا العقاب والتّوبيخ،
فأخزاهم الله في الدّنيا بتسليط رسوله عليهم فقتل من قتل، وسبى من سبى، وأجلى من أجلى، وفي الآخرة عذاب عظيم، وما الله بغافل عما يعملون.
ثمّ أخبر الله تعالى عن السّبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعضه:
أنّهم توهموا إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم العار، لكنّهم لعنادهم وسفههم اختاروا النّار على العار، وآثروا الحياة الدّنيا، كالزّعامة الفارغة، وأخذ المال، وغير ذلك.
على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.
على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم.
فلا شافع يشفع لهم، ولا ولي يدفع عنهم العذاب في جهنم.
فهذه اﻵيات في يهود المدينة حيث حالف بعض اليهود الأوس وحالف بعضهم الخزرج
فقال تعالى: ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )
فكان خاتمتهم أن قال الله فيهم:
( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) (86)
حتى نحن كذلك !!
إذا اشترينا الحياة الدّنيا بالآخرة فسيكون مصيرنا مصيرهم.
سيكون مصيرنا مصيرهم.
فالكتاب كتاب هداية ورشاد، فلنحذر ياأخوات أن نشتري الحياة الدّنيا بالآخرة.
ثمّ تتوالى الآيات في موقف اليهود من الرّسل والكتب والملائكة.
فتعريف الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر.
فالآيات من آية ٨٧ ستفضح اليهود وموقفهم مع الرّسل والكتب والملائكة.
قال تعالى:
( وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) (88)
امتنّ الله على بني إسرائيل أن أرسل إليهم كليمه موسى عليه السّلام وآتاهم التّوراة .
ثمّ تابع بعده بالرّسل الذّين يحكمون بالتّوراة إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم -عليه السلام- وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر .
( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس ) :ِ أي قوّاه بروح القدس.
قال أكثر المفسرين: أنّه جبريل -عليه السّلام-
وقيل: أنّه الإيمان الذي يؤيّد الله به عباده.
ثمّ مع هذه النّعم التي لم يقدّروا قدرها
( بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُم )
لما أتى كتاب لا يوافق هواهم
( فَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون ).
فقدمتم الهوى على الهدى.
هنا المشكلة .. هنا المرض
عندما نشخّص المرض من الأساس لابد نعرف ماهو الأساس ومن أين أتت المشكلة .
المشكلة أنّهم قدموا الهوى على الهدى، فلنحذر حبيباتي من تقديم الهوى على الهدى .
المسألة ليست سهلة.
لكنّ النّفس تتعود عوديها موقف اثنين ثلاثة أربعة.
نزّلي نفسك وصغّري نفسك حتّى لو كان الموقف خلاف ما تحبّه نفسك .
الله لابد أن نقدمه على أنفسنا .
كلمة الحقّ أقولها لو كانت على نفسي، وعلى أبنائي، حتّى ولو كانت المصيبة على نفسي أو أولادي. المهم أنّي لا أقدّم الهوى على الهدى.
في مجلس لا أستطيع أنكر فيه ليس لدي شجاعة أضطر أنّني أصمت !
لو رأيت منكر لابدّ أن أتعوّد المرّة المرتين الثّلاث حتّى تتعوّد نفسي على ذلك.
لا أقدم الهوى على الهدى في لباس أو كلام أو حديث أو نقاش أو حلول مشاكل أو مصيبة قولي الحق لو كان على نفسك حتّى لو كان في القرار أمور أخرى ستكون وبالا عليك.
فالله سبحانه سيرى منك الصّدق ويقف معك سبحانه وتعالى برحمته.
فالله سبحانه سيرى منك الصّدق ويقف معك سبحانه وتعالى برحمته.
فقدمتم الهوى على الهدى، وآثرتم الدّنيا على الآخرة. هذا أمر عظيم جداً.
لذلك قال الله عنهم:
( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) (88)
فالأصل أن قلوبهم ليست غلف فهم لديهم فطرة مثل غيرهم.
المشكلة أنّنا في بعض الأحيان نبرّر مواقفنا بكلمات: نحن تعودنا، نحن تربينا
لا ليس هكذا.
أنت المسؤولة عن نفسك.
بعض الأوقات نضع الكاهل على المدرسة، على المعلمين، على الوالد، على الوالدة، على البيت، على ....
نضع الآخرين شمّاعة لأخطائنا !!
هؤلاء اليهود
( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ )
يبرّرون بقولهم: قلوبنا غلف
ونحن -أحياناً- نقع في نفس المشكلة، نضع الآخرين شمّاعة لنا!
مدارسنا علمونا ..
تربيتنا كانت هكذا..
لو بقينا على هذا في تبرير الأخطاء
سنكون مثل اليهود عندما قالوا ( قُلُوبُنَا غُلْفٌ )
بماذا ردّ الله عليهم:
( بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ )
هم اختاروا هذا الطّريق لذلك الله -عزّ وجلّ- لعنهم بكفرهم.
أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعيتهم يا محمد أن قلوبهم غلف أي على قلوبهم غلاف وأغطية فلا تفقه ماتقول!
أي بزعمهم لهم عذر بعدم العلم وعدم الفهم،
وهذا كذب منهم.
بل لعنهم الله وطردهم
لماذا؟
بسبب كفرهم
فقليل المؤمن منهم: أي قليل الإيمان منهم وكفرهم هو الكثير.
والله سبحانه منصف، فختم لهم ب ( فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ )
لم يلغ الإيمان منهم بتاتًا.
لنأخذ لو شيء من عدل الله سبحانه في حديثنا وكلامنا ووصفنا للنّاس وبعض المواقف تحتاج لشيء من العدل .
نقول انظري الله سبحانه وتعالى وانظري اليهود ألدّ أعداء الله ما تركوا شيء لم يتجرؤوا على الله فيه، ومع ذلك يقول سبحانه وتعالى عنهم:
( فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) (88)
الملائكة من جملة تسخيرهم للخلق: يؤيدون من أمرهم الله بتأييده فدعى لحسّان بن ثابت الرّسول عليه الصّلاة والسّلام :
اللهم أيّده بروح القدس
( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس ) :
أيّ من الملائكة تؤيّد من أمرهم الله بتأييده.
بيان عتوا بني إسرائيل واستكبارهم وأنّهم لا يريدون الحقّ
( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون )
أنّ من استكبر عن الحقّ إذا كان لا يوافق هواه من هذه الأمّة فهو شبيه ببني إسرائيل.
أنّ القلوب بفطرتها ليست غلفًا، وأنّ الفطرة من حيث هي فطرة تقبل الحقّ، ولكن يوجد لها موانع وصوارف تصرفها عن الهدى.
بيان أنّ الأسباب مهما قويت إذا غلب عليها المانع لم تؤثّر شيئاً، فالقلوب مفطورة على الدّين القيّم ووجود موانع والموانع قوية لم تتمكّن من الهدى.
وقد قيل أنّ الأمور لا تتم إلا بوجود أسبابها وانتفاء موانعها.
سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك
والحمد لله والصّلاة على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق